الصور النمطية المتبادلة بين الشرق والغرب: قراءة
تحليلية في كتاب إدراك العالم للدكتور زهير توفيق
قسم: كتب
في ظل التجاذبات الحضارية والصراعات الثقافية التي يشهدها عالمنا المعاصر، يبرز سؤال "الهوية" و"الآخر"
كواحد من أكثر الأسئلة إلحاحاً في الفكر العربي والعالمي. كيف نرى الآخر؟ وكيف
يرانا؟ وهل تغيرت هذه النظرة عبر القرون أم أنها مجرد إعادة إنتاج لصور نمطية
قديمة؟
يحاول الدكتور زهير توفيق الإجابة عن هذه الأسئلة الشائكة في كتابه المرجعي الهام "إدراك العالم... الصور
النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر"، الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون" في
الأردن. الكتاب الذي يقع في 420 صفحة، لا
يكتفي بالسرد التاريخي، بل يغوص في أعماق البنية الذهنية والنفسية للشعوب، محللاً
جدلية العلاقة بين العرب المسلمين ومحيطهم الإقليمي والدولي.
 |
| الصور النمطية المتبادلة بين الشرق والغرب: قراءة تحليلية في كتاب إدراك العالم للدكتور زهير توفيق |
الصور النمطية المتبادلة بين الشرق والغرب: قراءة تحليلية في كتاب إدراك العالم للدكتور زهير توفيق
في هذا المقال، سنستعرض بالتفصيل
المحاور الرئيسية للكتاب، ونحلل الرؤية التي طرحها المؤلف حول ثبات الصور النمطية،
ودور الاستشراق، والعلاقة المعقدة بين الشرق والغرب.
بطاقة الكتاب التعريفية
- عنوان الكتاب:
إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا
والآخر.
- المؤلف:
د. زهير توفيق.
- الناشر:
الآن ناشرون وموزعون – الأردن.
- عدد الصفحات:
420 صفحة.
- الموضوع:
الفكر السياسي والاجتماعي، التاريخ، الاستشراق، علم
الاجتماع.
1.
جدلية الأنا والآخر الإطار النظري للكتاب
ينطلق الدكتور زهير توفيق
في دراسته الاستقصائية من فرضية أساسية تتعلق بمفهوم "إدراك العالم". فالإدراك
هنا ليس عملية بصرية مجردة، بل هو عملية ثقافية وتاريخية معقدة. يتناول الكتاب
العرب المسلمين بوصفهم (الذات/ الأنا) التي مارست عملية تعيين وتخيل (الآخر) عبر
العصور الوسطى والحديثة.
هذا "الآخر" في
الكتاب ليس كتلة واحدة، بل يتشعب ليشمل:
- الآخر الديني والسياسي:
ممثلاً في الغرب الكنسي (اللاتيني والبيزنطي).
- الآخر الإثني والثقافي:
ممثلاً في الفرس (الشرق) والسود.
- الآخر العقائدي الداخلي/الخارجي: ممثلاً في اليهود
والمسيحيين.
تكمن
أهمية الكتاب في أنه لا يدرس فقط كيف رأى العرب هؤلاء، بل يدرس الصورة المعاكسة: كيف
تشكلت صورة العربي المسلم في المخيال الفارسي (الحركة الشعوبية)، وفي المخيال الأوروبي
(الرومي واللاتيني) وصولاً إلى العصور الحديثة.
2.
ثبات الصورة النمطية التاريخ يعيد إنتاج نفسه
إحدى أخطر النتائج التي
يخلص إليها المؤلف، والتي تشكل العمود الفقري للكتاب، هي فكرة "الثبات البنيوي" للصورة
النمطية. يجادل توفيق بأن النظرة المتبادلة بين الشرق والغرب، أو بين العرب
وخصومهم، لم تخرج عن مسلمات العصور الوسطى.
مركزية الذات وتهميش الآخر
يرى المؤلف أن "الذات"
(سواء كانت العربية أو الغربية) تنصب نفسها دائماً كـ:
- المركز:
الذي تدور حوله الأطراف.
- المعيار:
الذي يقاس عليه الحق والخير والجمال.
بينما
يتم وضع "الآخر" دائماً في خانة:
- الهامش والأطراف.
- البربري أو المتوحش.
- الكافر أو المنحرف.
وبحسب
المؤلف، فإنه مهما تغيرت الظروف السياسية أو الاقتصادية، فإن "الآخرية" وعمق
"الغيرية" تظل ثابتة. فكل طرف لا يمنح الآخر إلا ما تسمح به نظرته
المتعالية، مما يؤدي إلى تصعيد الخلاف والاختلاف بدلاً من البحث عن المشتركات. المرجعية
هنا تظل دائماً دينية وإثنية، تعمل كسلطة حاكمة تمنع أي تغيير حقيقي في الفهم
المتبادل.
3.
من العصور الوسطى إلى الاستشراق الحديث
ينتقل الكتاب ببراعة من
تحليل العصور الوسطى إلى العصر الحديث، رابطاً بين الصور القديمة وما نراه اليوم. يشير
المؤلف إلى أن الصور النمطية السلبية عن العرب والمسلمين التي نُحتت في القرون
الوسطى، لم تندثر، بل دخلت "المعجم الغربي" بشكل نهائي.
لحظة نابليون بونابرت (1798م)
يحدد الكتاب حملة نابليون
بونابرت على مصر عام 1798م كنقطة تحول مفصلية. هنا تحول الاستشراق من مجرد فضول
معرفي أو ديني، إلى
"استشراق واعٍ لذاته"؛ أي استشراق سياسي وأنثروبولوجي يهدف للسيطرة.
يؤكد الدكتور زهير توفيق
أن الغرب الحديث ورث تركة القرون الوسطى من العداء والكراهية، وأعاد تغليفها بإطار
علمي وسياسي لتبرير الاستعمار والهيمنة.
4.
شروط الغرب للتعامل مع الشرق صناعة الوكلاء
في تحليل سياسي ونقدي لاذع،
يتطرق الكتاب إلى طبيعة العلاقة غير المتكافئة بين الغرب والشرق العربي. يطرح
المؤلف فكرة أن الغرب لا يتلطف مع الشرق، ولا يقبله شريكاً، إلا بشروط محددة.
تتمثل هذه الشروط في:
- التواطؤ والتماهي:
يجب أن يتماهى الشرق مع خطاب الغرب ورطانته.
- النخبة الوكيلة:
يرى المؤلف أن الغرب نجح في اختراق المجتمعات
الشرقية عبر خلق "نخب فكرية وسياسية وكيلة". هذه النخب تستمد
شرعيتها ووجودها من الدعم الغربي، ومقابل ذلك تقوم بتسويق الخطاب الغربي داخل
ثقافتها المحلية.
هذا
التحليل يكشف عن عمق الأزمة؛ فالصورة النمطية لم تبقَ مجرد فكرة في رأس الغربي، بل
تحولت إلى واقع سياسي يُفرض عبر وكلاء محليين، مما يدل على نجاح الغرب في جعل
الشرق "تابعاً ممتثلاً".
5.
إدوارد جيبون استثناء في قاعدة التحامل
على الرغم من قتامة المشهد
العام الذي يرصده الكتاب بخصوص النظرة الغربية، فإن المؤلف يتمتع بالأمانة العلمية
التي تدفعه لرصد الاستثناءات. يخصص الكتاب مساحة للحديث عن مفكري التنوير، ويبرز
منهم المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون (Edward Gibbon).
يقدم جيبون نموذجاً
مختلفاً ومغايراً للسائد في عصره، حيث اتسمت رؤيته للنبي محمد وللعرب قبل الإسلام
بنوع من الإنصاف النقدي. يقتبس الكتاب من جيبون إعجابه بالفضائل العربية الأصيلة،
مثل:
- الحرية ورفض الخضوع:
حيث يستنكف العربي أن يطأطئ رأسه لسيد.
- ضبط النفس والشجاعة:
وهي صفات حصن بها العربي نفسه ضد قسوة الصحراء.
- رجاحة العقل:
التي تنعكس في المظهر والسلوك.
هذا
الاستشهاد يؤكد أن "الآخر" ليس كتلة صماء بالكامل، وأن هناك دائماً
مساحات، ولو ضيقة، للفهم الموضوعي بعيداً عن التعصب الكنسي أو الاستعلاء
الاستعماري.
6.
الشرق الفارسي الشعوبية وصراع الهوية
لم يغفل الكتاب الجانب
الشرقي من معادلة "الآخر"، وتحديداً العلاقة مع الفرس. يشير المؤلف إلى "الشعوبية"
كحركة فكرية وسياسية نشأت داخل الدولة الإسلامية، حملت في طياتها "مخيالات"
وتصورات خاصة عن العرب.
هذا المحور بالغ الأهمية
لأنه يخرجنا من ثنائية (شرق/غرب) التقليدية، ليوضح أن الصراع على الصورة والمكانة
كان موجوداً أيضاً بين مكونات الحضارة الإسلامية نفسها، حيث سعت الشعوبية لتقليل
شأن العرب (الأنا) مقابل تعظيم التراث الفارسي (الآخر الشرقي).
خاتمة أهمية الكتاب في مكتبتنا العربية
يعد كتاب "إدراك
العالم" للدكتور زهير توفيق إضافة نوعية للمكتبة العربية، ليس فقط لغزارة
مادته التاريخية، بل لمنهجيته التحليلية التي تربط الماضي بالحاضر.
لماذا يجب قراءة هذا الكتاب؟
- فهم الذات:
يساعدنا على فهم كيف تشكلت هويتنا عبر التاريخ من
خلال تفاعلها مع الآخرين.
- تفكيك الاستشراق:
يقدم أدوات نقدية لفهم الخطاب الغربي الحديث وتجذره
التاريخي.
- الوعي السياسي:
يكشف آليات الهيمنة الثقافية والسياسية التي ما
زالت فاعلة حتى اليوم.
إن
الكتاب دعوة مفتوحة لإعادة قراءة التاريخ بوعي نقدي، وإدراك أن "الصور
النمطية" ليست مجرد أفكار عابرة، بل هي قوى فاعلة تشكل السياسات، وتبرر
الحروب، وتصوغ مستقبل العلاقات بين الأمم. وفي عالم يزداد ترابطاً وتصارعاً في آن
واحد، يصبح "إدراك العالم" وتفكيك هذه الصور ضرورة قصوى للنجاة الحضارية.